فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

الأكبر محيى الدين قدس سره في الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من الفتوحات: إنه ذوار كان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وبين كل قائمتين قوائم وعددها معلوم عندنا ولا أبينها إلى آخر ما قال، ويفهم كلامه أن قوائمه ليست بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، وصرح بأنه أحد حملته وأنه أنزل عند أفضل القوائم وهي خزانة الحرمة، وذكر أن العمى محيط به وأن صورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية، وأطال الكلام في هذا الباب وأتى فيه بالعجب العجاب، وليس له في أكثر ما ذكره فيه مستند نعلمه من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه ما لا يجوز أنا أن نقول بظاهره، والظاهر أن العرش واحد، وقال من قال من الصوفية بتعدده، ولا يخفى ما في نسبة الاستواء إليه تعالى بعنوان الرحمانية مما يزيد قوة الرجاء به جل وعلا وسبحان من وسعت رحمته كل شيء.
{لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض}.
و{لَهُ} به على ما يقتضيه ما روى عن ابن عباس من أن الوقف على {العرش} [طه: 5] ويكون المعنى استقام له تعالى كل ذلك وهو على مراده تعالى بتسويته عز وجل إياه كقوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} [البقرة: 29] أو استوى كل شيء بالنسبة إليه تعالى فلا شيء أقرب إليه سبحانه من شيء كما يشير إليه «لا تفضلوني على ابن متي» مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلًا، والرواية عن ابن عباس غير صحيحة، ولعل الذي دعا القائل به إليه الفرار من نسبة الاستواء إليه جل جلاله، ويا ليت شعري ماذا يصنع بقوله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] وهو بظاهره الذي يظن مخالفته لما يقتضيه عقله مثله {الرحمن عَلَى العرش استوى} بل {لَهُ} خبر مقدم و{مَا في السماوات} مبتدأ مؤخرًا أي له عز وجل وحده دون غير لا شركة ولا استقلالًا من حيث الملك والتصرف والإحياء والإماتة والإيجاد والإعدام جميع ما في السموات والأرض سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلو فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا كالهواء والسحاب وخلق لا نعلمهم هو سبحانه يعلمهم أو أكثريًا كالطير الذي نراه {وَمَا تَحْتَ الثرى} أي ما تحت الأرض السابعة على ما روى عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب، وأخرج عن السدي أنه الصخرة التي تحت الأرض السابعة وهي صخرة خضراء، وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت الأرض؟ قال: الماء قيل: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة قيل: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء قيل: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى قيل: فما تحت الثرى؟ قال: انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق.
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه من حديث طويل، وقال غير واحد.
الثرى التراب الندى أو الذي إذا بل لم يصر طينًا كالثريا ممدودة، ويقال: في تثنيته ثريان وثروان وفي جمعه أثراء؛ ويقال: ثريت الأرض كرضى تثرى ثرى فهي ثرية كغنية وثرياء إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس وأثرت كثر ثراؤها وثرى التربة تثرية بلها والمكان رشه وفلانا ألزم يده الثرى، وفسر بمطلق التراب أي وله تعالى ما واراه التراب وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقرير، وإذا كان ما في الأرض ما هو عليها فالأمر ظاهر، وما تقدم من الإشارة إلى أن المراد له تعالى كل ذلك ملكًا وتصرفًا هو الظاهر.
وقيل: المعنى له علم ذلك أي إن علمه تعالى محيط بجميع ذلك، والأول هو الظاهر. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

{طه (1)}.
قد تقدَّم الكلامُ في الحروفِ المُقَطَّعةِ أولَ هذا الموضوعِ، و{طه} مِنْ ذاك، هذا هو الصحيح. وقيل: إنَّ معنى {طه} يا رجلُ في لغةِ عَك، وقيل: عُكْل، وقيل: هي لغة يمانية. وحكى الكلبي أنك لو قلتَ في عَكّ: يا رجلُ، لم يُجِبْ حتى تقولَ: طه.
وقال الطبري: طه في عَكّ بمعنى: يا رجلُ، وأنشدَ قولَ شاعرهم:
دَعَوْتُ بِطهَ في القتالِ فلم يُجِبْ ** فَخِفْتُ عليهِ أَنْ يكونَ مُوائِلا

وقول آخر:
إنَّ السَّفاهةَ طه في خلائِقِكمْ ** لا قَدَّسَ اللهُ أرواحَ المَلاعينِ

قال الزمخشري: وأثرُ الصَّنْعَةِ ظاهرٌ في البيت المستشهدِ به فذكره، وقال السدي: معناه: يا فلانُ. وقال الزمخشري أيضًا: ولعل عَكًَّا تَصَرَّفوا في يا هذا، كأنهم في لغتهم قالبون الياءَ طاءً، فقالوا: في يا: طا، واختصروا هذا فاقتصورا على ها. يعني فكأنه قيل في الآية الكريمة: يا هذا. وفيه بُعدٌ كبيرٌ.
قال الشيخ: ثم تَخَرَّص وحَزَرَ على عَك ما لم يَقُلْه نحويٌّ: وهو أنهم يقلبون يا التي للنداء طاءً، ويحذفون اسم الإِشارة ويقتصرون منه على ها التي للتنبيه. قلت: وهذا وإن كان قريبًا مما قاله عنه إلاَّ أنه أنحى عليه في عبارته بقوله: تَخَرَّص.
وقيل: {طه} أصلُه طَأْها بهمزة طَأْ أمرًا مِنْ وَطِىء يَطَأُ، وها ضميرُ مفعولٍ يعودُ على الأرض، ثم أبدل الهمزَة لسكونها ألفًا، ولم يَحْذِفْها في الأمرِ نظرًا إلى أصلها أي: طَأ الأرضَ بقدمَيْكَ. وقد جاء في التفسير: أنه قام حتى تَوَرَّمَتْ قدماه.
وقرأ الحسنُ وعكرمةُ وأبو حنيفةَ وورشٌ في اختياره بإسقاطِ الألفِ بعد الطاء، وهاءٍ ساكنة. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ الأصلَ طَأْ بالهمز أمرًا أيضًا مِنْ وَطِىء يَطَأُ، ثم أبدلَ الهمزةَ هاءً كإبدالهم لها في هَرَقْتُ وهَرَحْتُ وهَبَرْتُ. والأصلُ: أَرَقْتُ وأَرَحْتُ وأَبَرْت. والثاني: أنه أبدل الهمزةَ ألفًا، كأنه أَخَذه مِنْ وَطِي يَطا بالبدل كقوله:
لا هَنَاكِ المَرْتَعُ

ثم حَذَفَ الألفَ حَمْلًا للأمرِ على المجزومِ وتناسِيًا لأصل الهمز ثم ألحق هاءَ السكتِ، وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. وقد تقدَّم في أولِ يونس الكلامُ على إمالةِ طا وها فأغنى عن أعادتِه هنا.
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)}.
قوله: {أَنَزَلْنَا}: هذه قراءةُ العامَّةِ. وقرأ طلحةُ: {ما نُزِّلَ} مبنيًا للمفعول، {القرآنُ} رُفِعَ لقيامه مَقامَ فاعلِه.
وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً إِنْ جُعِلت {طه} تعديدًا لأسماءِ الحروفِ، ويجوز أن تكونَ خبرًا ل طه إنْ جَعَلْتَها اسمًا للسورة ويكون القرآنُ ظاهرًا واقعًا موقعَ المضمرِ؛ لأنَّ طه قرآنٌ أيضًا، ويجوز أن تكونَ جوابَ قسمٍ، إنْ جَعَلْتَ طه مُقْسَمًا به، وقد تقدَّم تفصيلُ القول في هذا.
قوله: {إِلاَّ تَذْكِرَةً}: في نصبه أوجهٌ، أحدها: أن تكونَ مفعولًا من أجله. والعاملُ فيه فِعْلُ الإِنزال، وكذلك {تَشْقَى} علةٌ له أيضًا، ووجبَ مجيءُ الأولِ مع اللام لأنه ليس لفاعلِ الفعلِ المُعَلَّل، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. هذا كلام الزمخشري، ثم قال: فإن قلتَ: هل يجوزُ أن تقولَ: ما أَنْزَلْنا، أن تَشقى كقوله: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2]؟ قلت: بلى ولكنها نصبةٌ طارئة كالنصبةِ في {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] وأما النصبةُ في {تَذْكِرةً} فهي كالتي في ضَرَبْت زيدًا لأنه أحدُ المفاعيلِ الخمسةِ التي هي أصولٌ وقوانينُ لغيرِها.
قلت: قد منع أبو البقاء أن تكونَ {تَذْكرةً} مفعولًا له لأَنْزَلْنا المذكورةِ، لأنها قد تعدَّتْ إلى مفعولٍ له وهو {لتشقى} فلا تتعدى إلى آخرَ مِنْ جنسِه. وهذا المنعُ ليس بشيءٍ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الفعلُ بعلتين فأكثرَ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يُفضِي العاملُ من هذه الفَضَلاتِ إلاَّ شيئًا واحدًا، إلاَّ بالبدلية أو العطف.
الثاني: أن تكونَ {تذكرة} بدلًا مِنْ محلِّ {لتَشْقَى} وهو رأيُ الزجاج، وتبعه ابنُ عطية، واستبعده أبو جعفر، ورَدَّه الفارسيُّ بأنَّ التذكرةَ ليسَتْ بشقاءٍ. وهو ردٌّ واضحٌ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا فقال: فإنْ قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ {تذكرةً} بدلًا مِنْ محلِّ {لِتشْقى}؟ قلت: لا؛ لاختلافِ الجنسينِ ولكنها نُصِبَتْ على الاستثناءِ المنقطع الذي {إلاَّ} فيه بمعنى لكن.
قال الشيخُ: يعني باختلافِ الجنسَيْنِ أن نَصْبَةَ {تذكرةً} نصبةٌ صحيحةٌ ليست بعارضةٍ، والنصبةُ التي تكون في {لِتشقى} بعد نَزْعِ الخافضِ نصبةُ عارضةٌ. والذي نقول: إنه ليس له محلٌّ البتَةَ فيتوهمُ البدلُ منه. قلت: ليس مُرادُ الزمخشري باختلافِ الجنسين إلاَّ ما ذكرتُه عن الفارسيِّ ردًَّا على الزجاج، وأيُّ أثرٍ لاختلاف النصبين في ذلك؟
الثالث: أن يكونَ منصوبًا على الاستثناء المنقطع أي: لكنْ أَنْزَلْناه تذكرةً. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ مقدرٍ، أي: لكنْ ذَكَّرْنا، أو تذكَّرْ به أنت تَذْكِرة. الخامس: أنه مصدرٌ في موضع الحال أي: إلاَّ مُذَكِّرًا. السادس: أنه بدلٌ من {القرآن}، ويكون القرآنُ هو التذكرةَ، قاله الحوفي. السابع: أنه مفعولٌ له أيضًا، ولكن العاملَ فيه {لِتَشْقَى} ويكون المعنى كما قال الزمخشريُّ: إنا أَنْزَلْنا عليك القرآنَ لتحتمل متاعبَ التبليغِ ومقاولةَ العُتاةِ من أعداءِ الإِسلام ومقاتلتَهم، وغيرَ ذلك من أنواعِ المشاقِّ وتكاليفِ النبوة، وما أنزلنا عليك هذا المَتْعَبَ الشاقَّ إلاَّ ليكونَ تذكرةً.
وعلى هذا الوجهِ يجوزُ أن يكونَ {تذكرةً} حالًا ومفعولًا له انتهى.
فإنْ قلتَ: مِنْ أين أَخَذْتَ أنه لمَّا جعله حالًا ومفعولًا له أنَّ العاملَ فيه {لِتَشْقَى}؟ وما المانعُ أن يريدَ بالعاملِ فيه فعلَ الإِنزال؟ فالجوابُ أنَّ هذا الوجهَ قد تقدَّم له في قوله: وكلُّ واحدٍ مِنْ {لتشقى} و{تذكرةً} علةٌ للفعل. وأيضًا فإنَّ تفسيرَه للمعنى المذكور منصبٌّ على تسلُّطِ {لِتَشْقَى} على {تذكرةً}. إلاَّ أنَّ أبا البقاء لمَّا لم يظهرْ له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري مَنَعَ مِنْ عملِ {لِتَشْقَى} في {تذكرةً} فقال: ولا يَصِحُّ أن يعملَ فيها {لِتَشْقى} لفساد المعنى وجوابُه ما تقدَّم. ولا غَرْوَ في تسميةِ التعبِ شقاءً. قال الزمخشري: والشقاءُ يجيء في معنى التعب. ومنه المثل: أتعبُ مِنْ رائضِ مُهْر وأشقى مِنْ رائض مُهْر.
و{لِّمَن يخشى} متصلٌ ب {تذكرةً}. وزيدت اللام في المفعولِ تقويةً للعاملِ لكونِه فَرْعًا، ويجوز أن يكونَ متعلقًا بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {تذكرةً}.
{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)}.
قوله: {تَنزِيلًا}: في نصبِه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ بدلًا مِنْ {تذكرةً} إذا جُعِل حالًا لا إذا كان مفعولًا له لأنَّ الشيءَ لا يعَلَّلُ بنفسِه. قلت: لأنه يصيرُ التقديرُ: ما أنزَلْنا القرآنَ إلاَّ للتنزيل. الثاني: أن ينتصبَ ب نزَّل مضمرًا. الثالث: أن ينتصبَ ب {أَنْزَلْنا} لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً: أنزَلْناه تذكرةً. الرابع: أن ينتصبَ على المدحِ والاختصاصِ.
الخامس: أن ينتصبَ ب {يخشى} مفعولًا به أي: أنزله للتذكرةِ لمَنْ يخشى تنزيلَ الله، وهو معنى حسنٌ وإعرابٌ بيِّن.
قال الشيخُ: ولم يُنْصِفْه والأحسنُ ما قدَّمناه أولًا من أنه منصوبٌ ب {نَزَّل} مضمرةً. وما ذكره الزمخشري مِنْ نصبه على غيره فمتكلَّفٌ: أمَّا الأولُ ففيه جَعْلُ تذكرةً وتنزيلًا حالين، وهما مصدران. وجَعْلُ المصدرِ/ حالًا لا ينقاسُ.
وأيضًا فمدلولُ {تذكرةً} ليس مدلولَ {تنزيلَ}، ولا {تنزيلًا} بعضُ تذكرة. فإن كان بدلًا فيكونُ بدلَ اشتمالٍ على مذهبِ مَنْ يرى أن الثاني مشتملٌ على الأولِ؛ لأنَّ التنزيلَ مشتملٌ على التذكرة وغيرِها. وأمَّا قوله: لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرة: أَنْزَلْناه تذكرةً فليس كذلك لأنَّ معنى الحصرِ يَفُوت في قولِه أنزلناه تذكرةً. وأمَّا نصبُه على المدحِ فبعيدٌ. وأمَّا نصبُه ب {يخشى} ففي غاية البُعْدِ لأنَّ {يخشى} رأسُ آيةٍ وفاصلٌ، فلا يناسبُ أن يكونَ {تنزيلًا} منصوبًا ب {يخشى}، وقوله فيه وهو حسنٌ وإعرابٌ بيِّنٌ عُجمةٌ وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة.
قلت: ويَكْفيه ردُّه الشيءَ الواضحَ مِنْ غير دليل، ونسبةُ هذا الرجلِ إلى عدمِ الفصاحةِ ووجودِ العُجْمة.
قوله: {مِّمَّنْ خَلَق} يجوز في مِنْ أن تتعلق ب {تنزيلًا}، وأن تتعلقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {تنزيلًا}. وفي {خَلَق} التفاتٌ مِنْ تَكَلُّمٍ في قوله: {أَنْزَلْنا} إلى الغَيْبة. وجوَّز الزمخشري أن يكونَ {ما أنزَلْنا} حكايةً لكلامِ جبريل وبعضِ الملائكة فلا التفاتَ على هذا.
وقوله: {العلى} جمع عُلْيا نحو: دنيا ودُنا. ونظيرُه في الصحيح كُبْرى وكُبَر، وفُضْلى وفُضَل.
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}.
قوله: {الرحمن}: العامَّةُ على رفعهِ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في {خَلَق}. ذكره ابنُ عطية. وردَّه الشيخُ بأن البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، ولو حَلَّ هنا مَحَلَّه لم يَجُزْ لخلوِّ الجملةِ الموصولِ بها مِنْ رابطٍ يربطُها به. الثاني: أن يرتفعَ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هو الرحمن. الثالث: أن يرتفعَ على الابتداءِ مشارًا بلامِه إلى مَنْ خَلَقَ، والجملةُ بعده خبرُه.
وقرأ جناح بن حبيش {الرحمنِ} مجرورًا. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من الموصولِ. لا يقال إنه يؤدي إلى البدلِ بالمشتق وهو قليلٌ؛ لأنَّ الرحمنَ جرى مَجْرى الجوامدِ لكثرة إيلائِه العواملَ. والثاني: أن يكونَ صفةً للموصول أيضًا.
قال الشيخ: ومذهبُ الكوفيين أنَّ الأسماءَ النواقصَ كمَنْ وما لا يُوصَف منها إلاَّ الذي وحدَه، فعلى مذهبِهم لا يجوز أن يكونَ صفةً. قال ذلك كالرادِّ على الزمخشري. والجملةُ مِنْ قوله: {عَلَى العرش استوى} خبرٌ لقوله: {الرحمنُ} على القول بأنه مبتدأٌ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ إنْ قيل: إنه مرفوعٌ على خبر مبتدأ مضمر، وكذلك في قراءةِ مَنْ جَرَّه.
وفاعلُ {استوى} ضميرٌ يعودُ على الرحمنِ، وقيل: بل فاعلُه {ما} الموصولةُ بعده أي: استوى الذي له في السماوات، قال أبو البقاء: ويقال بعضُ الغلاةِ: {ما} فاعلُ {استوى}. وهذا بعيدٌ، ثم هو غيرُ نافعٍ له في التأويل، إذ يبقى قوله: {الرحمن عَلَى العرش} كلامًا تامًا ومنه هرب. قلت: هذا يُروى عن ابنِ عباس، وأنه كان يقف على لفظ {العرش}، ثم يبتدئ {استوى له ما في السماوات} وهذا لا يَصِحُّ عنه.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)}.
قوله: {الثرى}: هو الترابُ النديُّ، ولامُه ياءٌ بدليل تثنية على ثَرَيَيْن، وقولهم ثَرِيَتْ الأرَضُ تَثْرَى ثَرَىً. والثرى يستعمل في انقطاعِ المودة. قال جرير:
فلا تَنْبُشُوا بيني وبينَكُمُ الثرى ** فإنَّ الذي بيني وبينَكُمُ مُثْرِي

والثَّراءُ بالمدِّ: كثرةُ المالِ قال:
أَماوِيَّ ما يُغْني الثراءُ عن الفتى ** إذا حَشَرَجَتْ يومًا وضاقَ بها الصدرُ

وما أحسنَ قولَ ابنِ دريد:
يومًا تصيرُ إلى الثَّرى ** ويفوزُ غيرُك بالثَّراءِ

فجمع في هذه القصيدةِ بين الممدودِ والمقصورِ باختلاف معنىً. اهـ.